بين مكة والمدينة إنطلقت الرحلة التغيرية وإرتقت الأرواح بتلك اللمحة الربانية الكريمة، وإرتفعت كلمة الله لتسري عبر نسائم ليل مكة الطويل، ولينتثر شذاها في فضاءات الصحراء الممتدة عبر المدى البعيد المترامي.
وتتنزّل الآيات القرآنية الكريمة لتبث في قلوب المحرومين الرجاء بأنّ ليل الظلم والإسترقاق على وشك الرّحيل.
وتتهادى الجماعات المؤمنة لتنضم ّ إلى روّاد دار الأرقم بن أبي الأرقم تستمع إلى ما يحييها ويرفع شأنها ويعلي كرامتها، وقد أحست بحنوّ تلك اليد الطيّبة، وهي تمتد لتأخذ بها إلى مرتبة البشر وقد إعتبرت ولزمن طويل حالك الإسوداد فئة أخرى لا تمتّ إلى البشرية بصلة، ولا تعامل على أنّها إنسان يحسّ ويشعر ويكرّم، عبودية مرهقة القيود، وإلغاء كامل للكيان الخاص، وإستعباد فكري مؤذ وملغ للتفكير.
وعلى شواطئ بحار الظلم المترامي الأطراف تحطّ أكواخ البائسين وقد جفّت دموعهم ويبست أفئدتهم في حالة قنوط ذاهل وإنكسار مطبق وأنّى للأمل أن يحاول حتى مجرّد محاولة أن يقتحم تلك القلوب التي أغلقت دون الحياة فيها الابواب.
وتتأذّن الرحمة الربّانية بإحقاق الحق وإبطال الباطل، رغم أنف الفراعنة المتجذّرة كبرياؤهم في أعماق كياناتهم الجشعة، فإذا النور الإلهي ينبلج في عتمة اليأس فيحيل الظلمة نوراً والبؤس فرحاً، واليأس أملاً مشرقاً أخّاذاً وإذا الرهبة المفروضة طوقاً وحصاراً على العقول والنفوس المستضعفة ترتد قوّة وعزماً واطمئنانا وكرامة وتحرّرا وتنتفض العقول المتعفنة بسموم الجاهلية.
وتتصدّى النّفوس الرّاتعة في مراعي الجهل والإنحطاط والشرك ومستنقعات الجاهلية، وقد راعها ما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلّم من رحمة وهدى ونور ومساواة، يتنافى تماماً مع ما ألفته الطغمة المتنفّذة في مكة وما حولها من جور وإعوجاج، فالنّاس لآدم وآدم من تراب والنّاس سواسية كأسنان المشط أمام الله وفي الحياة بكل مرتكزاتها وميادينها.
وتصحو القلوب الصدئة على صيحة الحرية والتوحيد تطلقها الشعاب والرمال والبشر والشجر والطير والنخيل وكل ما في جنبات الكون من خلق مبثوث وقد إرتفعت كلمة لا إله إلّا الله محمد رسول الله، فعلمت تلك القوّة الغاشمة الحاكمة المتحكّمة أن هذه الكلمة ستزلزل عرش فرعنتها وتردّها إلى حقيقتها الحقّة بشراً ضعيفاً لا يحكم بأمره ولايتحكّم في فكر غيره ولا يسيطر على حياته، ويأكل مقدراته، ولايستعبده.
فكيف يهون ذلك كلّه على أولئك الذين إفترضوا أنفسهم آلهة وإجترحوا وفق هذا الإعتقاد أسوأ الجرائم الإنسانية.
ويمضي رسول الله صلى الله عليه وسلّم في رحلته الدعوية يرتاد أندية مكة ومنازلها ويسعى بين قبائلها وزوّارها داعياً إلى توحيد الله وعبادته وحده، وقد أوحى إليه ربّه تبارك وتعالى أن يصدع بدعوته ويعلنها على الملأ فقد اكتفت البشرية من الظلم والإستهانة بآدمية الإنسان وظلمه لأخيه الإنسان، ويصطدم الحق بالباطل وقد ألقى الشرّبثقله كلّه في ميدان مقاومة الحقّ الباهر والعدل الوليد المندفع قدماً يتمدد في كل الآفاق فروعاً مخضرّة مثمرة مباركة بإذن ربّها.
ويعتنق الطيّبون الدين القيّم فتطيب به حياتهم ويضع به الله قيود الجاهلية وإصرها، فتطيش الألباب الطائشة حنقا وغيظا وتمتد يد الظلمة بالقتل والتشريد والحرق والتنكيل في محاولة يائسة لإقتلاع جذور الإسلام ولكن هيهات هيهاتّ.
ويرقّ القلب النبوي الحاني لأصحابه وهم يعذّبون على رمال مكة اللاهبة وقد باعوا نفوسهم لله راضين بهذا البيع ومضوا غير هيّابين يخوضون معركة البقاء للأصلح معركة الزبد وجفاءه، والعقيدة النافعة للنّاس ومكثها أبداً ما دامت السماوات والأرض.
ويأمر الرّسول صلى الله عليه وسلّم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة فيهاجرون إليها مرّتين وتكون بركة الهجرة تلك إسلام النّجاشيّ، وتكون الحبشة مهد الإسلام في إفريقيا، كما يكون بلال رضي الله عنه أول أهل الحبشة رفعاً لأذان الصلاة.
وتستمر التضحيات في حياة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلّم وصحبه في رحلة مضنية ولكنها مليئة بكنوز المحبة الخالصة بينهم وبين الله.
وتستمر الهجرات واحدة تلو الأخرى وتتنسم يثرب نسائم العطر المكّي، وتحمل في أرجائها عبق المسك النبوي وتطالها أشعة النور، وقد أسلم وفدها من الأوس والخزرج ويختارها النبي الذي لا ينطق عن الهوى مهجراً ومستقراً ودولة ومنطلقاً لعهد جديد لهذه الأمة.
وتتشرّف يثرب بأكرم نبي وتحمل أعذب اسم يمنح لعاصمة العدل -المدينة المنوّرة- ويطوف إبن مكة البارّ المحب ببيتها العتيق ويخاطبها بكل شجن الفراق وصدق المودّة وعتب المفارق المغصوب على الفراق، واطمئنان العبد الواثق بربه إلى مولاه الحكيم «والله إنك لاحب أرض الله إلى الله، وانّك لأحب أرض الله إليّ ولولا أنّ اهلك أخرجوني منك ما خرجت».
فلا تعتبي يا مكة الطاهرة ولا تحزني ولا تجزعي لفراق ولدك ونبيك ومنقذك من ليل الجهل والإلحاد، وثقي بالله فغداً يعود إليك محمد صلى الله عليه وسلّم فاتحاً مسامحاً كريماً ليمسح عن وجهك الأليف الجميل أدران الشرك ويلقي باوثان الحمق خارج مدار التاريخ.
ولتتيقّني أن هذه الهجرة فتحاً وعزّا وتمكينا لدين الله، وهاهي الدولة العظيمة المنصورة العادلة ترتفع راياتها على كل علم وسهل وواد وبقعة في أرجاء الأرض بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل لقد جاءت الرسالة المحمديّة بالتغيير المنشود لتقيم العدل في الفكر والمنهج والحكم والمواطنة والتحرر والاستاذية والخيرية الراعية لمصالح الخلق، فحوربت وطورد اتباعها وظلت هذه الدعوة على مرّ الزمان محل الكره والرفض والعداوة والمحاربة من كل فرعون مرّ على الأرض بعدها.
وظل المنادون بتطبيقها وإعتناقها مبدأ ومنهج حياة وشرعة ومنهاجاً محل تشريد وإيذاء واستهداف ولكن السنن الربانية القاهرة ظلت دائماً تدور لصالحها ولو بعد حين وتبقى الرحلة المحمدية المباركة مابين مكة والمدينة رحلة الفئة المجاهدة التي التي حملت لواء تغيير الواقع المخجل المتهالك المخادع إلى واقع بهيج يسوده الإطمئنان والشعور بالعزة والحرية واقع يسود في العدل بلا أدنى درجة من مرارة الظلم والشرك والعلوّ الفرعوني المتجبّر.
ويرعى التاريخ المبتهج بصفحاته الرّائعة ركب الأحبة إلى طيبة الطيبة، وقد أصبحت مستقرّالحق ووجهة النبي وصحبه في هجرة تؤرّخ لتاريخ الأمة الإسلامية بتضحية جيل تفرد بالسبق إلى الخير وتفرّد بالثبات والتجرد والإقبال على الله والتخفف من أثقال الأرض وأعباء الدنيا وغرورها صدقوا الله ففتح لهم أبواب الرحمة والمغفرة ولم تعرف الدنيا مثل فضلهم وصبرهم وإستصغارهم لكل ما بذلوه لله فإستحقوا الوسام البديع رضي الله عنهم ورضوا عنه.
الكاتب: رقية القضاة.
المصدر: موقع ياله من دين.